كغيرها في منطقتي جنوب وجنوب شرق آسيا، حيث الأسر السياسية التي لعبت دوراً في قيادة البلاد إلى الاستقلال وبناء الدولة الحديثة هي المهيمنة على الحياة السياسية أو هي محور الحراك السياسي، ظلت سريلانكا بعيد استقلالها في عام 1948 تُدار من قبل أحد أفراد أسرة "آل باندرانيكا"، باستثناء ما مجموعه 28 سنة. بل إنه حتى في تلك السنوات ظلت الأسرة من خلال حزب "الحرية" الذي أسسه زعيمها "سولومون دياز باندرانيكا" في عام 1951 تلعب دوراً محورياً في الحياة السياسية عن طريق قيادة المعارضة في البرلمان. البداية كانت في عام 1956 حينما فاز الحزب وحلفاؤه بقيادة مؤسسه بواحد وخمسين مقعداً من مجموع مقاعد البرلمان البالغة وقتذاك 95 مقعداً. وقد عد ذلك في حينه بداية الأفول السياسي لأسرة سينانيكا التي قادت البلاد نحو الحرية عبر "الحزب الوطني المتحد" وخرج منها أول ثلاثة رؤساء للحكومة في العهد الاستقلالي، حيث لم يستطع الحزب المذكور أن يحصل إلا على 8 مقاعد فقط. لكن حقبة باندرانيكا المؤسس كانت قصيرة ولم تتجاوز السنوات الثلاث، كنتيجة لاغتياله في عام 1959 على يد كاهن بوذي، بسبب ما قيل عن امتعاض الكثيرين من عدم وفائه بتعهداته حول تمكين البوذية السنهالية من لعب دور محوري في شؤون البلاد. ولم تمض عدة أشهر على واقعة الاغتيال إلا وكانت أرملة القتيل السيدة "سيريمافو باندرانيكا" تصعد إلى السلطة كنتيجة لفوز حزب "الحرية" في انتخابات 1960، وتدخل التاريخ كأول رئيسة وزراء في العالم. وعلى الرغم من افتقاد الأخيرة لثقافة زوجها وشخصيته الديناميكية والكاريزمية، فإنها استطاعت توظيف إرثه السياسي في البقاء في الحكم حتى عام 1965 ، حينما خسر حزبها انتخابات ذلك العام لصالح "الحزب الوطني المتحد" بقيادة "دودلي سينانيكا". غير أن "باندرانيكا" عادت إلى السلطة في عام 1970 بتحقيق حزبها نصراً كاسحاً تجسد في حصوله على 116 مقعداً من أصل 151 مقعداً، وظلت فيها سبع سنوات متواصلة تميزت بالكثير من الجدل والمماحكات والفساد السياسي والقرارات الاقتصادية العشوائية. في الانتخابات البرلمانية التالية في عام 1977 ، تلقى "حزب الحرية" هزيمة ماحقة على يد "الحزب الوطني المتحد" الذي كانت قيادته قد آلت إلى ريتشارد جاياواردينا (من أقارب أسرة سينانيكا البعيدين). حيث لم يحصل الأول إلا على 8 مقاعد فيما حصل الثاني على 140 من أصل 168 مقعداً، الأمر الذي أطلق يد "جاياواردينا" في إحداث تغييرات سياسية كثيرة، شملت تغيير الدستور وتبني النظام الرئاسي بدلاً من النظام البرلماني وتحرير الاقتصاد ومصادرة الحقوق السياسية للسيدة "باندرانيكا" لمدة سبع سنوات بتهمة استغلال النفوذ، ناهيك عن إسناد رئاسة الحكومة لأول مرة إلى شخصية من الطبقات الدنيا هو "راناسينغا بريماسادا". وحينما أجريت أول انتخابات رئاسية في عام 1988، كانت "باندرانيكا" العائدة إلى المعترك من سنوات الحظر السياسي تقود حزباً أنهكته الصراعات الداخلية ما بين ابنها الوحيد "أنورا باندرانيكا" وقادة حزبيين آخرين، فلم تستطع الفوز برئاسة سريلانكا التي آلت إلى "بريماسادا". وقد مثل انتصار الأخير منعطفاً مهماً في تاريخ البلاد، ليس فقط بسبب أيلولة الرئاسة إلى شخصية متواضعة من خارج دائرة النخب ذوي الثقافة الإنجليزية، وإنما أيضاً بسبب خسارة أسرتي "سينانيكا" و"باندرانيكا" معاً للسلطة لأول مرة منذ الاستقلال. أما التي أعادت الوهج إلى أسرة "باندرانيكا"، خلافاً لكل التوقعات، ومكنتها مرة أخرى من عودة مظفرة إلى السلطة، فلم تكن سوى ابنة زعيمها المؤسس "تشاندرايكا كوماراتونغا" التي فازت برئاسة الحكومة في أغسطس 1994 على رأس "تحالف الشعب" ثم برئاسة الدولة في نوفمبر من العام نفسه، منهية بذلك نحو 17 عاماً من حكم "الحزب الوطني المتحد". وخلال الفترة من ذلك التاريخ وحتى نوفمبر الماضي، حينما استنفدت حقها الدستوري في حكم البلاد لفترتين رئاسيتين متعاقبتين، أسندت "كوماراتونغا" رئاسة الحكومة إلى والدتها "باندرانيكا" التي توفيت في عام 2000، وتعرضت في عام 1999 لمحاولة اغتيال فقدت فيها إحدى عينيها، ودخلت في مماحكات مع السلطة التنفيذية التي آلت قيادتها في عام 2001 إلى زعيم المعارضة "رانيل فيكريماسينغا"، وخسرت دعم شقيقها "أنورا" الذي فضل الانضمام لبعض الوقت إلى المعارضة. إلى ذلك، اتخذت "كوماراتونغا" مواقف متشددة من عملية السلام مع جماعة نمور التاميل الانفصالية وما أفرزته من اتفاقيات برعاية النرويج، مدفوعة بخلافاتها مع "فيكريماسينغا" الذي وقع تلك الاتفاقيات، بدليل لجوئها إلى حل البرلمان في نوفمبر 2003 وإعلان ما يشبه حالة الطوارئ. وفي الانتخابات البرلمانية التي جرت في أبريل 2004، أبرم "تحالف الشعب" بقيادة "كوماراتونغا" اتفاقية مع "جبهة التحرير الشعبية اليسارية"، ليفوز التحالف الجديد وتتشكل أول حكومة في تاريخ سريلانكا يشترك فيها "اليساريون" المتشددون. غير أن الجبهة سرعان ما انسحبت من الحكومة في يونيو 2005 بسبب معارضتها لاتفاقية بين الأخيرة وحركة نمور التاميل حول الاستغلال المشترك للمساعدات الدولية في إعادة بناء ما دمرته كارثة "تسونامي" البحرية في المقاطعات الشمالية والشرقية من البلاد. وبإصدار المحكمة العليا قرارا في العام الماضي يمنع "كوماراتونغا" من الاستمرار في حكم البلاد سنة إضافية مثلما طالبت، تم في نوفمبر 2005 انتخاب رئيس الحكومة "ماهيندا راجاباكسا" كرئيس جديد لسريلانكا بدعم قوي ليس من قبل حزب الحرية وحلفائه فحسب وإنما أيضاً من قبل 25 حزبا سياسيا آخر، لكن الأصوات التي أحرزها لم تتجاوز نسبتها 50.3 بالمئة. و في أواخر يونيو المنصرم انتخب "حزب الحرية" راجاباسكا بالإجماع كزعيم له وفقا لتغيير داخلي يفيد بالجمع ما بين منصبي رئاسة البلاد و الحزب، الأمر الذي عد بمثابة ضربة قاضية لما تبقى من إرث "آل باندرانيكا" السياسي، خاصة وأن "كوماراتونغا" لم تحضر مراسم تنصيب الزعيم الجديد، مفضلة الذهاب إلى لندن لزيارة أبنائها، في تصرف عكس استياءها المرير مما جرى من تغيير في دستور حزبها. هذا ناهيك عن غياب شقيقها المثير للجدل وزير الخارجية السابق "أنورا" عن مراسم الحفل وإرساله رسالة إلى "راجاباسكا" يصف فيها عملية إقصاء شقيقته عن قيادة الحزب التاريخي باللاديمقراطية. يُشار إلى أن "راجاباسكا" (56 عاما)، ممثل السينما السابق وخريج الحقوق من جامعة كولومبو في عام 1974 والناشط الحقوقي ورئيس "لجنة التضامن مع فلسطين" في الثمانينيات وصاحب العلاقات الواسعة مع النقابات العمالية، ليس طارئاً على "حزب الحرية" أو الحياة السياسية. فهو ابن "دون ألوين راجاباسكا" أحد ساسة الاستقلال البارزين، ودخل البرلمان كنائب عن "حزب الحرية" في عدة دورات ابتداء من 1970، وشغل مناصب وزارية مختلفة في عهد "كوماراتونغا" مثل وزارة العمل والتدريب المهني ووزارة الثروة السمكية والموارد المائية، وشق طريقه إلى المراتب العليا في الحزب بجدارة. لقد تنبأ كثيرون بأفول الإرث السياسي لـ"آل باندرانيكا" من قبل على نحو ما أوضحنا، لكن الأسرة أثبتت دائماً أنها باقية في قلب الحياة السياسية، فهل سيتكرر المشهد مرة أخرى، علما بأن هذه هي المرة الأولى منذ 55 عاماً التي تفقد الأسرة زعامتها وسيطرتها على حزبها؟